في عام 2025، تطلّ علينا السينما النيوزيلندية بعملٍ إنساني مؤثر يحمل عنوان «Tinā»، من إخراج ميكي ماجاسيفا، في أول تجربة روائية طويلة له. الفيلم ينتمي إلى فئة الدراما الموسيقية، لكنه يتجاوز التصنيف المعتاد، ليقدّم حكاية عن الفقد، والتعافي، وإعادة اكتشاف الذات عبر قوة الفنّ والمجتمع.

القصة
تتمحور الأحداث حول ماريتا بيرسيفال، معلمة بديلة من أصول ساموانية فقدت ابنتها في زلزال كرايستشيرش عام 2011. منذ ذلك اليوم، تغيّر كل شيء في حياتها. يثقلها الحزن، وتفقد ثقتها في نفسها وفي العالم من حولها. لكن حين تُعيَّن في مدرسة خاصة للنخبة، تجد نفسها وسط بيئة مختلفة تمامًا، حيث الثراء والسطحية واللامبالاة.

وسط تلك الأجواء، تقرر ماريتا أن تنشئ جوقة موسيقية تجمع طلابًا من خلفيات متباينة. ومع كل نغمة موسيقية، تبدأ الأرواح الجريحة في التعافي شيئًا فشيئًا. تتحوّل الجوقة إلى مساحة آمنة للتعبير، وتصبح الموسيقى وسيلةً لتوحيد القلوب وكسر الحواجز، ليس بين الطلاب فحسب، بل بين ماريتا ونفسها أيضًا.

 الأداء والتمثيل
قدّمت الممثلة أنابيلا بولاتافاو (Anapela Polataivao) أداءً مذهلًا في دور ماريتا، حيث جمعت بين الألم والصلابة في مزيجٍ صادق ومؤثر.
لم تلجأ بولاتافاو إلى المبالغة في الانفعال، بل اعتمدت على الصمت والنظرات وتفاصيل الجسد لتجسيد امرأة فقدت ابنتها لكنها لم تفقد قدرتها على الحب.

كما لفتت الأنظار شخصية صوفي، الطالبة الخجولة ذات الصوت العذب، التي تُجسّد رمزية الجيل الصامت الباحث عن ذاته وسط عالمٍ صاخب. التناغم بين الممثلتين خلق لحظاتٍ مؤثرة تُلامس القلب بصدقها وبساطتها.

 الرؤية الإخراجية
اعتمد المخرج ميكي ماجاسيفا على أسلوب بصري هادئ ومليء بالتفاصيل. الكاميرا تتحرك برفق، كأنها تراقب الحياة من بعيد، لتلتقط لحظاتٍ صغيرة تصنع المشهد الكبير.
الإضاءة الدافئة والموسيقى التي وضعها إيفريت يونغ (Everett Young) تنسجم مع روح الفيلم، لتجعل المشاهد يعيش تجربة وجدانية لا تقوم على الحوارات فقط، بل على الإحساس العميق الذي تنقله الصورة والصوت معًا.

التصوير الذي تولّته صوفيا كاتشيولا (Sophia Cacciola) أضفى على العمل طابعًا شاعريًا، يجمع بين الحزن والأمل، وكأن كل مشهد لوحة تروي قصة جديدة من الألم والرجاء.

 العرض والاستقبال

حظي الفيلم بعرضه العالمي الأول في مهرجان هاواي السينمائي الدولي عام 2024، قبل أن يُعرض رسميًا في دور السينما النيوزيلندية في فبراير 2025، حيث لاقى إشادة جماهيرية ونقدية واسعة.
في أسبوعه الأول، حقّق أكثر من 1.3 مليون دولار نيوزيلندي، ليصبح أحد أنجح الأفلام المحلية في البلاد.
الجمهور أشاد بجرأة الفيلم في تناول الحزن من منظورٍ إنساني صادق، بعيد عن الميلودراما أو المبالغة، وبقدرته على تقديم الموسيقى كأداة للشفاء وليست مجرد عنصر ترفيهي.

 بين الموسيقى والإنسان

ما يميّز Tinā أنه لا يقدّم الموسيقى كديكور، بل كقوة روحية تُعيد ترتيب ما انكسر في الداخل.
الفيلم يُبرز كيف يمكن للفن أن يكون وسيلة للمصالحة مع الذات، وكيف يمكن للأغنية أن تُحوّل الفقد إلى طاقة للحياة.
وفي الوقت ذاته، يحتفي بالهوية الساموانية والثقافة الباسيفيكية دون أن يجعلها عبئًا على السرد، بل جزءًا من نسيج الحكاية وجمالها.

فيلم «Tinā» هو قصيدة عن الشجاعة والحبّ والأمل بعد الألم.
إنه عمل بسيط في شكله، عميق في معناه، يذكّرنا بأنّ التعافي لا يحدث دفعة واحدة، بل يبدأ حين نجد من يُصغي، ومن يغنّي معنا.

إنه واحد من تلك الأفلام التي لا تُشاهدها بعينيك فقط، بل بقلبك أيضًا.