شهد مهرجان تورونتو السينمائي الدولي في دورته الأخيرة عرضاً أولياً لفيلم درامي ضخم يحمل عنوان Nuremberg (نورمبرغ)، وهو عمل سينمائي يسلّط الضوء على واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ القرن العشرين: محاكمات نورمبرغ التي تلت الحرب العالمية الثانية. وقد لاقى الفيلم استقبالاً حافلاً، حيث وقف الحضور يصفقون لأكثر من أربع دقائق متواصلة، في إشارة واضحة إلى قوة التأثير الدرامي والإنساني الذي حملته هذه التجربة السينمائية.
الفكرة والمصدر الأدبي
الفيلم من تأليف وإخراج جيمس فاندر بيلت، الذي استند إلى كتاب الباحث الأمريكي جاك إل-هاي The Nazi and the Psychiatrist (النازي والطبيب النفسي). هذا الكتاب يوثّق العلاقة المعقدة التي نشأت بين الطبيب النفسي الأمريكي دوغلاس كيلي وأبرز قادة النازية المسجونين بعد سقوط الرايخ الثالث، وفي مقدمتهم هيرمان غورينغ. لقد تطلب المشروع من المخرج ما يقارب ثلاث عشرة سنة من البحث والإعداد قبل أن يرى النور، وهو ما انعكس في ثراء التفاصيل التاريخية ودقة الأجواء التي أعاد بها الفيلم رسم تلك المرحلة.
شخصيات بين الشرّ والإنسانية
راسل كرو قدّم واحداً من أعمق أدواره في السنوات الأخيرة مجسداً شخصية غورينغ، الرجل الثاني في النظام النازي، الذي يظهر في الفيلم بين مزيج من الكاريزما والدهاء، والقدرة على المناورة الفكرية رغم سقوطه المدوي. كرو لا يكتفي بتجسيد صورة "الشرير الكلاسيكي"، بل يعرض شخصية معقدة تدافع عن إرثها وتتشبث بخطابها حتى النهاية.
رامي مالك، الحائز على الأوسكار، يلعب دور الطبيب دوغلاس كيلي، الذي يجد نفسه أمام مهمة عسيرة: تقييم الحالة العقلية والنفسية لقادة النازية والتأكد من أهليتهم للمثول أمام المحكمة. التحدي الأكبر بالنسبة له ليس مهنياً فقط، بل أخلاقي أيضاً؛ إذ يتعين عليه أن يفهم كيف يفكر هؤلاء الرجال، وما الذي يجعل إنساناً عادياً قادراً على تبرير جرائم جماعية بهذا الحجم.
إلى جانب هذين الدورين الرئيسيين، يشارك عدد من الممثلين البارزين مثل مايكل شانون وريتشارد إي. غرانت، الذين أضافوا عمقاً للشخصيات القانونية والسياسية التي شكّلت مشهد المحاكمة.
حكاية عن العدالة والنفس البشرية
ما يميّز نورمبرغ أنّه لا يقتصر على إعادة سرد أحداث المحكمة، بل يذهب إلى ما هو أعمق: المواجهة النفسية بين الضحية والجلاد، بين الطبيب والقاتل، بين العدالة والشر. الفيلم يطرح سؤالاً وجودياً كبيراً: هل يمكن فهم الشر من الداخل؟ وهل الفهم يساوي التبرير؟ هذه التساؤلات تجعل الفيلم أكثر من مجرد مادة تاريخية، بل تجربة فكرية وفلسفية تُحاور المشاهد.
الدقة التاريخية ومصادر القوة
يحرص الفيلم على قدر كبير من الأمانة التاريخية، مستخدماً أرشيفات حقيقية وصوراً ولقطات وثائقية لمعسكرات الاعتقال، الأمر الذي يضفي على المشاهد صدمة إضافية ويمنع الدراما من الانفصال عن الواقع. المخرج لم يتعامل مع المادة كحكاية من الماضي فقط، بل كدرس حاضر يمكن أن يُقرأ في ضوء أزمات اليوم، حيث ما زال العالم يواجه تحديات تتعلق بالعدالة الدولية وحقوق الإنسان.
ردود الأفعال والنقد
النقاد الذين شاهدوا الفيلم في تورونتو أشادوا بأداء راسل كرو واعتبروه أحد أبرز أدواره منذ سنوات، كما أثنوا على التوازن الذي قدمه رامي مالك بين الرصانة العلمية والاضطراب الداخلي الذي يعيشه طبيب يحاول سبر أغوار عقول مجرمين عالميين. صحيفة الغارديان وصفت الفيلم بأنه "مبارزة فكرية عالية المستوى" بين ممثلين بارعين، بينما أشار آخرون إلى أن العمل، رغم جديته، يميل في بعض الأحيان إلى لغة سينمائية مشحونة بالحوارات المكثفة، ما يجعله أقرب إلى مسرح ذهني يواجه فيه المشاهد صراعاً نفسياً أكثر منه إثارة بصرية.
موعد العرض والتوزيع
بعد نجاح عرضه الأول، من المقرر أن يبدأ الفيلم رحلته في صالات السينما العالمية في السابع من نوفمبر 2025، حيث ستتولى شركة Sony Pictures Classics توزيعه في الولايات المتحدة وكندا، على أن ينتقل لاحقاً إلى أسواق أخرى.
أهمية الفيلم
يأتي نورمبرغ في وقت حساس يطرح فيه العالم تساؤلات عن معنى العدالة الدولية، وعن الحدود الفاصلة بين المسؤولية الفردية والجماعية في الجرائم الكبرى. الفيلم لا يكتفي بتذكيرنا بواحدة من أهم المحاكمات في التاريخ، بل يدعونا إلى التفكير في آليات الشر وكيفية مواجهته بالوعي والقانون. إنه عمل يتجاوز كونه دراما تاريخية ليصبح مرآة تعكس مخاوف وأسئلة عصرنا.
افلام
مسلسلات
المدونة