تعيش صالات السينما اللبنانية هذه الفترة حالة من النقاش والحركة مع عرض فيلم "الكونت" (The Count) للمخرج التشيلي بابلو لارين، وهو عمل أثار الجدل عالميًا منذ عرضه الأول، لما يحمله من جرأة فكرية وبصمة فنية تمزج بين الخيال السياسي والكوميديا السوداء.
الفيلم لا يكتفي بسرد قصة عن ديكتاتور شهير، بل يعيد رسم صورة الطغيان بوصفه فكرة خالدة، تتجاوز الحدود والزمن، لتصبح انعكاسًا لأي مجتمع عرف الظلم أو الفساد أو خيانة المبادئ.

قصة الطاغية الذي لا يموت
يقدّم لارين في "الكونت" حكاية ديكتاتور تشيلي سابق يعود إلى الحياة في هيئة مصّاص دماء خالد، يعيش في قصر مهجور ويواجه أشباح ماضيه المظلم.
هذه الفكرة الغريبة ليست لمجرد الإبهار البصري، بل لتأكيد أن الاستبداد لا يزول بالموت، بل يتحوّل ويعيد تشكيل نفسه عبر العصور.
الفيلم يستخدم لغة فنية عالية في التصوير والموسيقى والرمز، ليصنع تجربة تجمع بين الرعب والعبث والفلسفة.

تفاعل لبناني خاص مع الفيلم
في لبنان، وجد "الكونت" مساحة استقبال مميزة، خصوصًا بين المهتمين بالسينما السياسية والفكرية.
فالجمهور اللبناني، الذي يعيش يوميًا مع جدلية السلطة والذاكرة والفساد، وجد في الفيلم مرآة قريبة من تجربته.
لم تكن المشاهدة مجرد ترفٍ فني، بل تجربة تأملية في معنى التاريخ، وكيف تتشابه وجوه المستبدين مهما اختلفت أماكنهم وأزمنتهم.

عدد من الصالات في بيروت ومدن أخرى نظّم عروضًا متبوعة بنقاشات بين النقاد والجمهور، حيث تحوّل الفيلم إلى مادة فكرية تفتح الباب أمام سؤالٍ أكبر:
هل يمكن للفن أن يواجه الطغيان؟

قراءة فنية ومعنوية
من الناحية الفنية، أبدع لارين في توظيف الأبيض والأسود ليمنح الفيلم طابعًا كلاسيكيًا يعكس سوداوية الفكرة، فيما جاءت الشخصيات الثانوية لتجسّد أطياف المجتمع بين الخضوع والمقاومة.
أما من الناحية الرمزية، فالفيلم يتجاوز بلده الأم ليتحوّل إلى تحذير عالمي من دورة القمع المتكرّرة.
لذلك، كان طبيعياً أن يجد المشاهد اللبناني في "الكونت" نفسه بين السطور — يرى ملامح الواقع في ملامح الخيال.

فيلم "الكونت" في السينما اللبنانية لم يكن مجرد عرض أجنبي، بل حدث ثقافي يُذكّر بأن السينما قادرة على فتح الجروح من أجل فهمها، لا إخفائها.
من خلال مزيجٍ بين السخرية والرعب، يذكّرنا لارين بأنّ الشر لا يختفي، بل يبدّل قناعه كلما غفلنا عن مراقبته.

 “الكونت” ليس فقط عن ديكتاتورٍ من تشيلي، بل عن فكرة الطغيان التي تعيش في كل مكان حين نصمت طويلاً.